القصر الكبير أو المدينة المغتصبة

محمد الموذن
بالأمس القريب كانت مدينة القصر الكبير حاضرة متمدنة، تعيش حياة راقية، يعكسها سلوك أبنائها المهذب، وعشقهم للثقافة والفن، وارتيادهم للمكتبات والمسارح ودور السينما، كانت المدينة تعيش السكينة والنظام والانضباط، كما كانت تتواجد بالمدينة حدائق غناء، وفضاءات رحبة وجميلة للراحة والاستجمام … واليوم فقد القصر الكبير معظم مواصفات المدينة، وتحول إلى مجرد تجمع سكني، تطغى عليه مظاهر البداوة والفوضى والتسيب، وعشش في نفوس ساكنته الخوف والرعب وعدم الاطمئنان على المال والنفس والأهل من جراء انتشار الجنحة والجريمة المنظمة.

عمت الفوضى كل مظاهر ومرافق الحياة: في السير وتنظيم الجولان، في التجارة والأسواق، في حركية المجتمع وانعدام الأمن، وفي نمط الحياة، سادت الفوضى على حساب النظام، وتلاشى الشعور بالأمن أمام طغيان الرعب والإرهاب النفسي، الفوضى الخلاقة التي تولد فرص الكسب الحرام، فوضى تنظمها الإدارة، وتغذيها مؤامرة الصمت، فوضى يزكيها عدم تنفيذ القرارات القطاعية المنظمة للحياة الاجتماعية والاقتصادية، فوضى ينعشها الغياب الإرادي لسلطة الإدارة، فوضى مرخص لها من لدن مؤسسة المجلس البلدي الذي اهتم بالحجر ونسي مسؤوليته نحو البشر، فوضى نموذجية نخاف أن تنتقل عدواها إلى باقي مدن الشمال.

ففي مجال التجارة وفوضى الأسواق تحولت مدينة القصر الكبير إلى أسواق بلا أبواب، ولا ضوابط ولا حدود، سلع معروضة على أرصفة الشوارع وفي الأزقة وفي الساحات العمومية، تعرقل سير المارة، وتنازع السيارات في حقها المشروع في استعمال الطرق المعبدة، شوارع اغتصبها أصحاب العربات و”الكراريس”، وشوارع أصبحت مقطوعة في وجه السيارات إلى أجل غير قريب، ووسط الحشود البشرية المضغوطة بقوة الازدحام، وبين جموع الباعة والمشترين وعربات الخضر والفواكه وكل ما يخطر أو لا يخطر على بال يتحرك رجال القوات المساعدة، وأحيانا بمعية رجال الأمن وأعوان السلطة، يمررون بعض الأوامر والخطابات، ربما لتنظيم هذه الفوضى، أو توجيهها من هنا إلى هناك، ومما زاد الأمور تعقيدا مشروع المجلس البلدي الرائد، الذي ضيق الشوارع الضيقة أصلا في وجه السيارات المتكاثرة يوما بعد يوم، ليمنح فضاء أوسع للصوص الملك العام، لالتهام المزيد من الأرصفة، ليعرضوا فيها سلعهم في صفقات مريبة مع مهندسي الشأن المحلي لهذه المدينة المنكوبة حضاريا وتنظيميا.

أطفال المدارس، والتلاميذ والشيوخ وعموم المواطنين مجبرون على المشي جنبا إلى جنب مع السيارات والشاحنات والدراجات، يعرضون حياتهم للخطر، من أجل أن ينعم بالربح المضاعف أصحاب المقاهي والدكاكين والمطاعم، بإضافة الأرصفة إلى محلاتهم التجارية، ليغدقوا بدورهم من القيمة المضافة على المسؤولين عن الشأن المحلي المزيد من الإتاوات، فجل المقاهي والمطاعم سيجت الفضاء العمومي، وأصبح ملكا لها بالقوة والفعل، وما تبقى من الأرصفة تجثم عليه السيارات كالعقارب مساء كل يوم إنها الفوضى الخلاقة في القصر الكبير قبل الشرق الأوسط.

أما فيما يتعلق بالسير وتنظيم الجولان فتلك الطامة العظمى والآفة الكبرى، سيارات جعلت من الأرصفة مرأبا لها، وسائقون يسيرون في الاتجاه المعاكس دون انضباط لقوانين السير أو إحساس بالخجل أو الحرج، وشباب يمارسون هواية التسابق بالدراجات الهوائية والنارية مولدين الهلع والسخط لدى المواطنين، ويتنافسون في تحدي الشعور العام، وإحداث أعلى ضجيج دون حسيب أو رقيب، ملوثين البيئة والفضاء الاجتماعي العام بعد أن اغتالوا في نفوس السكان الرضا والاطمئان.

الفوضى المنظمة في مدينة القصر الكبير اغتصبت كل شيء جميل، اغتصبت الحدائق والملاعب، اغتصبت مسرح بريس ﮔالدوس والسينمات وفضاءات الشباب، استولت على الشوارع والملك العام، أرهبت الأساتذة والتلاميذ بباب المدارس، أرعبت المواطنين في جنح الظلام وفي واضحة النهار، شوهت معالم المدينة، وأقبرت الأمل في التصحيح والإصلاح، ومع ذلك نتشبث بخيط الأمل في تغيير الأوضاع، وسيادة القانون وإقرار النظام

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

x

Check Also

تطوان : دركيين بمطار سانية الرمل يسقطان في شر أعمالهما

طنجة اليوم : مراسلة فتحت النيابة العامة المختصة بحثا قضائيا مع دركين ...