ما يعيق اليسار العربي (عموماً) عن بلورة مشروع فكري – سياسي في قراءة أزمات المنطقة والبحث عن حلول بديلة، أن “تطعيم” المطالب النقابية والمدنيّة والمواقف المعادية للإمبريالية، على جذع الإصلاحات الدستورية لدمقرطة السلطة وأشكال الحكم، هو مجرّد حركة احتجاجية – مطلبية في سياق تحوّلات المنظومة الدولية و”ديمقراطيتها” النيوليبرالية المعولمة، وهو ما بات ثقافة سياسية ليبرالية (نيوليبرالية) سائدة تتجاوز اليسار فيما يسمى “الديمقراطية” (بالألف واللام المطلقَة) ونقيض التراث اليساري ر الديمقراطي، ناهيك عن “اليسار الشمولي”، في فلسفة الدولة ودورها الناظم لنشاطات الحياة الاجتماعية والجيو – سياسية بمعزل عن مسار دمقرطة السلطة والحكم.
أحد الأسس المؤسِّسَة التي يختلف بها تراث اليسار ، و”اليسار الشمولي” أيضاً عن كل التيارات والمدارس الفكرية الأخرى، هو نموذجه الاجتماعي الخاص في فلسفة تنظيم نشاطات الحياة الاجتماعية ــ الاقتصادية والجيو ــ سياسية، سبيلاً لتنظيم المجتمعات في الغابة الكونية. وفي هذا الأساس المؤسس يتناقض اليسار ر كما “اليسار الشمولي” مع اليسار العربي (عموماً) في “تطعيم” المطالب الاجتماعية والنقابية والمواقف المعادية للامبريالية، على جذع نموذج الديمقراطية الليبرالية (تغيير أشكال الحكم). وهو التناقض الأساس مع كل التيارات التي تنطلق من الأفكار والمعتقدات والمبادىء والقيَم الدينية أو “العلمانية”، سبيلاً ناظماً للمجتمعات في الصراع بين الخير والشر. فاليسار ري الديمقراطي يُرسي رؤيته لوجود الكائن البشري على قاعدة “توماس هوبس” (1588 ــ 1679) القائلة بأن الناس يولدون بطبيعتهم متساوون أحراراً، لكنهم يولدون ويموتون في غابة عنف تكوّنها حالة الحرب الدائمة في تناقضات المصالح بين ذئاب بشرية. فذئبية الغابة ليست نتيجة حكم استبدادي يمكن أن يهذّبها حكم رشيد، وهو حقل خاص بالحكم في مجرى تغيير منظومة حياة أساسه حقل بناء الدولة. ولا هي حصيلة أفكار ومعتقدات “شريرة” يمكن تغييرها بأفكار وقيَم “خيّرة” دينية أو مدنيّة “علمانية”، إنما الصراع على هذه القيَم هو احتراب دموي كالتراجيديا اليونانية لا قعر له من الدم. ولا سبيل للحدّ من ذئبية الغابة سوى تهذيب السلوك البشري من دون تغيير الافكار والمعتقدات، عبر تنظيم توازن المصالح في أسباب المعاش وسبُل العمران (هوبس، لوفياتون، “لوفياتون هو وحش الغابة الأسطوري في الميثيولوجيا الفينيقية”، فصل لماذا الخضوع للدولة، غاليمار، باريس، 2001).