احمد و الزهراء
كلما سئل الإرهابي محمد حاجب عن سبب التحاقه بمعسكرات تنظيم “القاعدة” في معاقله الأصلية بالساحة الباكستانية الأفغانية، أو عن السبب في اعتقاله من طرف الجيش الباكستاني في أكتوبر من سنة 2009، كان “أبو عمر الألماني” يتدثر دائما بجواب واحد وبذريعة يزعم فيها: “كنت عضوا نشيطا في بعثات الدعوة التي تنظمها جماعة التبليغ والدعوة إلى الله!!”
وفي بحث استقصائي حول المسارات والمسالك التي قطعها الإرهابي محمد حاجب في رحلة “الجهاد”، انطلاقا من مدينة DUISBURG بألمانيا، مرورا بمدينتي مشهد وزاهدان الإيرانيتين، ومدن CUETA و PANJGOUR وBANNU الباكستانية، وصولا إلى منطقة القبائل “وزرستان”، وتحديدا مضافة المقاتلين الأذربيجان بضواحي “ميران شاه”، سيكتشف القارئ بأن محمد حاجب إنما كان يكذب كذبا “بواحا”، وأنه كان يمارس “التقية” أو “الكذب الحلال”، في محاولة لإبراء ذمته من نزوعات التطرف والإرهاب التي تطوق عنقه.
رحلة.. في الاتجاه المعاكس!
من يطالع المؤلفات والإصدارات التي توثق لنشأة جماعة التبليغ والدعوة إلى الله في بواكير عقد العشرينيات من القرن الماضي، سيدرك جيدا بأنها انطلقت من شبه الجزيرة الهندية، التي تضم أساسا الهند وباكستان، على يد منظرها الأول محمد إلياس الكاندهلولي. فهي جماعة دينية بمقاصد دعوية، تروم الهجرة إلى خارج الحدود القطرية بحثا عن الإرشاد والدعوة والموعظة الحسنة. وهنا يصطدم الباحث بزيف ادعاءات الإرهابي محمد حاجب، فالتبليغيون، نسبة إلى أعضاء جماعة التبليغ والدعوة إلى الله، كانوا على امتداد أكثر من قرن من الزمن يهجرون باكستان والهند نحو ألمانيا وباقي الدول الأوروبية وغيرها، لإشاعة تعاليم الدين الإسلامي، ودعوة أبناء الجاليات المسلمة إلى المواظبة على الصلاة باعتبارها عماد الدين.
وعندما يزعم محمد حاجب بأنه توجه إلى باكستان في إطار العمل الدعوي لجماعة التبليغ والدعوة إلى الله، يكون إما كاذبا أو أرسى مسارا معكوسا لبعثات الجماعة! التي غالبا ما كانت تسلك طريق شبه الجزيرة الهندية في اتجاه ألمانيا وأوروبا وليس العكس. والراجح أن الكذب والتقيّة في كلام الإرهابي محمد حاجب هما الأقرب إلى الحقيقة والصواب، خصوصا أنه لا يتقن الحديث باللغة الأوردية، ولا يتحدث لسان الباكستانيين، حتى ينجح في مهام الوعظ والإرشاد في بلاد هي أصلا مسلمة، وكانت تعرف وقتها نوعا من عدم الاستقرار الأمني بسبب تقاطعها مع مسارات التنظيمات الإرهابية.
ويبرز زيف ادعاءات محمد حاجب أكثر عندما يعلم الباحث بأن بعثات جماعة التبليغ والدعوة إلى الله كانت تتم بشكل جماعي وليس فردي، وكانت تسلك مسارات الهجرة المشروعة وليس مسالك الهجرة غير الشرعية كما قام بذلك محمد حاجب. فاقتفاء رحلة “أبي عمر الألماني” من نضارة ألمانيا نحو حُلكة مضافات المقاتلين بالحدود الأفغانية الباكستانية، يؤكد أن الرجل خرج ثاني اثنين، برفقة ألماني من أصل فلسطيني يدعى يوسف، وكان ذلك بتاريخ 21 يونيو 2009. وكانت رحلة الرجلين محفوفة بمخاطر تزوير الهوية لئلا يقعا بين أيدي أجهزة الأمن في كل من تركيا وإيران وباكستان.
فهل الخارج في بعثات جماعة التبليغ، وتحت أعينها، يضطر إلى السفر عبر مطار اسطنبول ومنه إلى مطار مشهد بإيران، وهناك يستصدر تأشيرة لمدة أسبوع ويقيم بمنزل سري رفقة عائلة أذربيجانية، وبعدها يخوض مغامرة السفر السري بالحافلة وبسيارات طويوطا نحو مدينتي زاهدان وسيروان على الحدود الإيرانية الباكستانية؟ فأتباع جماعة التبليغ يخرجون في بعثة جماعية منظمة، ويسافرون عبر منافذ حدودية بجوازات سفر رسمية، بيد أن محمد حاجب كان مضطرا إلى الاستعانة بخدمات مهربين أفغانين، أحدهما يدعى عبد العظيم والثاني منصور، وهما من تكلفا بمهمة النقل والتهجير السري مقابل مبالغ مالية بالدولار الأمريكي، بل إن الأفغاني منصور هو من تولى تصوير محمد حاجب ورفيق رحلته يوسف ليتسنى له استغلال الصور الفوتوغرافية في استصدار وثائق هوية باكستانية مزورة بالاستعانة بخدمات شبكات التزوير في سندات الهوية.
والمثير في هذه الرحلة أن محمد حاجب دفع مبلغ 110 دولارات لاقتناء وثائق الهوية الباكستانية المزورة، لضمان تنقلاته بين مدينتي سيروان وبانجور الباكستانيتين بعيدا عن أعين الشرطة والجيش. كما سدد مبلغ 250 دولارا لتغطية نفقات رحلته بمعية يوسف من الحدود الإيرانية الباكستانية إلى غاية الحدود الباكستانية الأفغانية. فهل الواعظ الخارج في سبيل الله يمكنه أن يتحمل كل هذه المخاطر والصعاب خالصة لوجه الدعوة، أم أن “الجهاد” هو الذي كان مُبْتَغَى مطلب ومُنْتَهَى غاية محمد حاجب؟
رحلة “الجهاد” بدون “أمير!”
من يتعمق في أصول ومرتكزات العمل الدعوي عند جماعة التبليغ والدعوة إلى الله سيدرك بأن هناك العديد من الأعراف والتراكمات التي توافقت عليها الجماعة ردحا من الزمن، فصارت بمثابة الدستور أو النص العرفي الملزم للأتباع والمنخرطين. فلا يخرج الوعاظ إلا جماعة، ويولون عليهم أميرًا في السفر والحضر، وهو الشيء الذي لم يستطع محمد حاجب أن يثبته بالأفعال، واكتفى فقط بتسويغه بالأقوال والهرطقات. فالرجل خرج بمعية مواطنه الألماني يوسف في رحلة غير مشروعة، وبهويات مزيفة، في التزام دقيق بالتدابير الاحتياطية أو الأمنيات (بفتح الهمزة على الألف) التي تعمل بها عادة الجماعات التكفيرية والتنظيمات المتطرفة.
كما يقتضي العمل الدعوى، في إطار جماعة أهل التبليغ، أنهم عندما يصلون إلى بلدة ما، يقسمون أنفسهم إلى مجموعات صغيرة، منها ما ينتدب لأغراض تدبير وتنظيف محل الإقامة، ومنهم من يخرج في الدعوة عند أصحاب الدكاكين وفي محيط المساجد والمحلات التجارية. وعندما يحين موعد الخطبة مساء، يحتشدون جميعا مرفوقين بمن تسنى لهم “هدايته”. لكن محمد حاجب زاغ عن هذه الممارسات الآمرة، وخرج كذئب منفرد يبتغي “الجهاد” بمعية صديقه يوسف، وهو ما يؤكد بأنه كاذب في كل ما ادعاه عندما زعم بأنه عضو في جماعة التبليغ.
لكن لماذا اختار محمد حاجب حصريا هذه الجماعة دون غيرها لينتحل صفة عضو فيها في معرض تبرير سفره لـ”الجهاد” تحت لواء تنظيم “القاعدة”؟ من يتعقب مسارات هذا المتطرف سيدرك بأنه انتمى في فترة من “التزامه الديني” إلى جماعة التبليغ والدعوة إلى الله بألمانيا وليس بباكستان كما يزعم، وكان ذلك تحديدا ما بين 2002 و2007، بإيعاز من زميله في الدراسة زكرياء، الذي كان يصطحبه معه إلى مسجد النور بمدينة CULEN الألمانية. وجميع الخرجات التي كان يشارك فيها محمد حاجب في ظل الجماعة كانت تتم في أوروبا، وتحديدا في ألمانيا وفرنسا، قبل أن تتوطد علاقته برفيق رحلته في “الجهاد” يوسف الفلسطيني، الذي سوف يقترح عليه الهجرة أولا لـ”الجهاد” في الشيشان، قبل أن يستقر العزم بعد سنتين من ذلك على الهجرة للقتال في أفغانستان.
فمحمد حاجب كان يعلم جيدا بديهيات وأصول العمل داخل جماعة التبليغ والدعوة إلى الله، بحكم ارتباطه السابق بها، وهو الأمر الذي ساعده كثيرا في التلاعب بالرأي العام وبمصالح الأمن الباكستاني عندما تم اعتقاله في أكتوبر من سنة 2009. فالرجل كان يدرك مسبقا بأن أنشطة الجماعة غير محظورة في باكستان، ولا يتم تصنيفها كتنظيم إرهابي مثلما هو الحال بالنسبة إلى تنظيمه الجديد “القاعدة”. لذلك اختلق هذه الكذبة، التي للأسف الشديد انطلت على العديد من المتابعين لقضيته، خصوصا داخل ألمانيا.
وأراجيف محمد حاجب لا تنحصر فيما ذُكر أعلاه، فهي كثيرة وغزيرة بعدد شعيرات لحيته غير المشذبة. أليس هو من أفتى بتحليل وشرعنة الانتحار إذا كان عملا جماعيا يستهدف قوات الأمن بالشارع العام، قبل أن يتبرأ من هذا التحريض على القتل ويزعم بأنه مجرد ناشط مسالم؟ أليس هو من أفتى بـ”مكروهية ” التصويت والترشح للانتخابات قبل أن يتراجع عن فتواه عندما أدرك بأن والدته بديعة شوقي مرشحة بدورها للانتخابات الجماعية بمدينة تيفلت؟ أليس هو الإرهابي الوحيد في العالم الذي ادعى بأنه خرج للدعوة إلى الله في باكستان، وهو متأبط سلاح كلاشنيكوف و120 خرطوشة اقتناهما من مواطن جزائري؟ فهل الدعوة النصوح والموعظة الحسنة تكونان بالأسلحة الحربية الثقيلة؟.. كلا.