مقبرة بوعراقية لم تعد تستقبل أي تابوت منذ حوالي 65 عاما، لكن الناس يحكون عنها حكايات غريبة. وعندما كانت الجرافات تسحق رفات الأموات لكي تفتح طرقا جديدة، قال الناس إن جثثا كاملة طفت فوق السطح وكأنها دفنت بالأمس. في هذه المقبرة ألغاز أخرى. الطريق الضيقة والمهيبة، التي كانت سابقا تفصل ما بين جزئي مقبرة بوعراقية، تحولت اليوم إلى طريق فسيحة ومفتوحة، والناس يمرون منها من دون خوف كبير، والسيارات تعبر على طرفيها، وحراس السيارات يتحركون مثل قطط نشيطة ، السور المحيط بالمقبرة به ممر طويل مخصص للراجلين، وقربه وضعت كراسي خشبية لجلوس الناس وما شابههم. هذه علامة حضارية جديدة في طنجة.
قرب سور المقبرة متسولة تستدر عطف الناس بقليل من الكلام. ربما اختارت الجلوس هنا بجوار المقابر لتذكر الناس بأن كل شيء فان، وأن ما سيتبقى لهم هو صدقاتهم فقط. متسولة نبيهة ، في الشارع يمر رجل وزوجته صحبة طفلهما. الطفل توقف قليلا وهو ينظر إلى قبر صغير يبدو أنه لطفل. تأمل الطفل القبر عن بعد ثم انصرف غير مبال. في الواقع ذلك القبر هو لطفلين معا دفنا في يوم واحد قبل 60 عاما. هذان الصبيان المدفونان في قبر مشترك هما أيضا كانا قبل عقود يلهوان في شوارع طنجة كأن الموت لن يلحقهما أبدا. ربما ماتا بسبب حادث أو جوع أو مرض، أو ربما بسبب شيء آخر، وعموما فإن الناس لا يهتمون كثيرا بآلاف الأموات الراقدين في هذه المقبرة الغريبة، والتي تبدو عادية من الخارج، وباطنها فيه الألم.
الأموات بمقبرة بوعراقي خليط غريب من البشر والأسماء. على مقربة من الطريق مقابر بلا أسماء ولا لوحات. وحده قبر أمينة بن مرزوق لا يزال يحتفظ بلوحته. هذه المرأة دفنت هنا في يونيو 1950، ومن حسن حظها أن الطراكس لم يجرف عظامها مثلما حدث لمئات القبور الأخرى التي كانت تضم جثامين شهداء وعلماء ، التوغل داخل المقبرة يعزلك تماما عن العالم الخارجي. صمتها مهيب وتبدو كقطعة من الأمازون في قلب المدينة. الأعشاب فيها خضراء يانعة والماء يمر زلالا بين القبور. كثير من القبور اختفت تحت الأعشاب الخضراء التي يبدو أن أشياء تتحرك تحتها باستمرار. هي ليست أجساد الموتى على أية حال. يمكن أن تكون جرذانا أو قططا أو حتى أفاع وضفادع في سباتها الشتوي الطويل.
الأشجار باسقة في هذه المقبرة وتحيطها بكثير من الظلال التي تشبه الظلام. مئات الطيور السوداء تطير من شجرة إلى أخرى، وأحيانا تنزل نحو العشب الكثيف فوق المقابر وتختفي. لماذا تترك هذه الطيور السوداء أعشاشها فوق الأشجار وتختفي بين القبور؟ ، سكان هذه المقبرة ليسوا من الأموات فقط، هناك أحياء يبحثون عن عزلة خاصة بين مقابرها التي تشبه الأطلال. وسط الأحراش رجل وحيد يمسك في يده سبسي ويدخن الكيف ويرشف من كأس شاي أخضر. قربه كلب منكمش على نفسه مثل أفعى، وحوله أغنام سمينة ترعى من الأعشاب الوافرة على سطح القبور. لا الراعي يتحرك ولا الكلب يستفيق من نومته، أما الأغنام فإنها تنتبه أكثر لزوار المقبرة من الغرباء. الربيع أتى مبكرا إلى مقبرة بوعراقية، وهناك زهور صفراء وزرقاء تنبت بسرعة فوق القبور، ربما لأن عظام الموتى أكثر خصوبة من الأسمدة الاصطناعية التي تباع في الأسواق الممتازة ، في المقبرة قبور جماعية كثيرة، وهناك قبور تضم أسرا بكاملها مثل قبر أسرة الفاسي التي تضم الأخوين محمد وإدريس، وأيضا أمهما السيدة فاطمة. كلهم توفوا سنة 1939 لسبب ما. هذه المقبرة تضم الكثير من الألغاز.
في مقبرة بوعراقية يوجد أيضا شهداء بالعشرات قضوا خلال انتفاضة 30 مارس 1952، أي أولئك الذين كانوا يطالبون بالاستقلال وماتوا برصاص الشرطة الدولية. اليوم، وبعدما جاء الاستقلال جرفت طراكسات الحرية والاستقلال عظامهم ورمتها في المزابل. لو عادوا أحياء هل كانوا سينتفضون للمطالبة بالاستقلال؟ ، من حسن حظ الذين دفنوا هناك قبل عشرات السنين أنهم حصلوا على قبرهم بالمجان، لأن في هذا الضريح المجاور للمقبرة، ضريح بوعراقية، حصل رجل على قبر مقابل 5 ملايين سنتيم بعد تدخلات ووساطات كثيرة من عائلته. طنجة صارت مرعبة في الحصول على قبر الحياة وقبر الممات معا.
حول مقبرة بوعراقية نشأ الكثير من العمارات، إحداها كانت سببا في مقتل الكثير من الأشخاص الذين قضوا بعد أن سقطت فوقهم أحجار وأخشاب ثقيلة، هكذا تساهم العمارات الجديدة في رفع نسبة الأموات في المدينة بينما تقل المقابر ويرتفع ثمنها، والناس يقولون إن شياطين العقار في طنجة، المعروفين أيضا باسم المنعشين العقاريين، ينتظرون الفرصة لكي ينقضوا على مقبرة بوعراقية ويطردوا أمواتها من أجل إقامة قبور للأحياء. أكيد سيحدث ذلك يوما لأن طنجة مدينة سائبة يمكن أن يحدث فيها أي شيء. وسط المقبرة طريق ضيقة بين الأحراش تربط بين أسفل وأعلى المقبرة. لا أحد يمر منها لأنها مهيبة وخطيرة. الناس يتوقعون في أي وقت أن يخرج لهم من تحت الأحراش قاطع طريق ويدفنهم في قبر فارغ. الأحياء يخافون الأحياء مثلهم وليس الأموات ، آلاف أموات طنجة كانوا يرقدون في سلام بهذه المقبرة، واليوم تطاردهم الجرافات والنزوات المريضة لأباطرة العقار. إن بقوا في مكانهم لعشرين سنة مقبلة، فلله الحمد والشكر من قبل ومن بعد، وإن طردوا من قبورهم ومدينتهم، فما عند الله خير وأبقى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.