المسيرة الخضراء ثورة ملك وشعب نحو تحرير أقالمينا الجنوبية
طنجة اليوم : متابعة
مع حلول يوم 6 نونبر من كل سنة، تستعيد الذاكرة الجماعية المغربية حدث المسيرة الخضراء، التي أعادت للمغاربة جزءا كبيرا من الأراضي المغتصبة من قبل الإسبان، وهي مناسبة لها ثقلها في سياقها التاريخي ورمزيتها الكبيرة، من خلال تلاحم وتوحد كل من القصر والشعب حول هدف واحد، هو استكمال الوحدة الترابية للمملكة ، الأن مرت عقود من الزمن على ابتكار هذه التحفة التاريخية، ومازالت صور الحشود الغفيرة الآتية من كل فج عميق، وهي تسير في انتظام نحو هدف واحد، مطبوعة في أذهان المغاربة ومحفوظة في كتب التاريخ، كواحدة من أكبر الإنجازات السياسية السلمية في التاريخ المعاصر، خاصة وأن أزيد من نصف مليون مغربي من المتطوعين (وليس 350 ألف متطوع كما يروج)، تركوا الأموال والأولاد والمتاع، وانطلقوا من كل المدن المغربية نحو الأقاليم الجنوبية الصحراوية، سلاحهم الوحيد لتصفية الاستعمار الإسباني، ومصاحف قرآنية ونداءات التكبير، لا غير.
لقد اتخذت المسيرة الخضراء، حسب كثير من المهتمين، طابعا جهاديا، وإن بدون سلاح في اليد.. ذلك أن عبارة “طرد العدو من الصحراء المغربية”، التي راجت بقوة في المدن أثناء التعبئة للمسيرة، كانت كافية للدفع بآلاف المغاربة إلى تسجيل أسمائهم للمشاركة في هذا الحدث.. البعض القليل من هؤلاء كان يستشعر آنذاك خطورة الوضع، فاقتحام أراضي مغربية خاضعة للاستعمار الإسباني، مجهزة بالعدة والعتاد العسكري لقوات الجنرال فرانكو، يعتبر مغامرة غير محسوبة العواقب، لكن السواد الأعظم من المغاربة المشاركين لم يلتفتوا إلى عنصر الخطورة، معتبرين أن هذا الاقتحام جهاد أكبر يروم تحرير الأراضي الصحراوية المغربية من آخر “المحتلين” في القارة الإفريقية، وأن هذا الاندفاع الكلي، جسديا ووجدانيا، هو نوع من “طاعة أولي الأمر”، واستجابة لنداء ملك يسعى إلى ربط المغرب بصحرائه، باعتبار هذه الأخيرة امتداد طبيعي وتاريخي للدولة العلوية منذ نشأتها خلال النصف الأول من القرن السابع عشر.
في المقابل، كان الحسن الثاني أكثر توجسا، وهو يوجه أمره بانطلاق هذه الحشود الغفيرة لتحرير الصحراء، فقد عاش، حسب بعض المحيطين به، لحظات عصيبة قبل وأثناء انطلاقة المسيرة الخضراء، إذ لم يطب له طعم ولا نوم، كان كثير السهر وأيضا كثير الاشتغال لترجمة فكرة المسيرة على أرض الواقع.. فمن جهة كان قد بلغ منه الإجهاد مبلغه، وهو يخطط لتعبئة المتطوعين، وتوفير كل المعدات اللوجيستيكية لإنجاح هذا الحدث، ومن جهة ثانية، كان منهمكا في البحث عن دعم عربي ودولي للمسيرة، مع مراقبته الشديدة للوضع الداخلي في القصر الإسباني، حيث يحتضر الجنرال فرانكو.. وفوق هذا وذاك، كان أكثر حذرا من جارته الشرقية الجزائر، ما دفعه إلى وضع أسلحته في حالة تأهب تحسبا لأي طارئ من شأنه إفشال هذه المسيرة ، غير أن العنصر الأكثر تعقيدا، هو تفكير الحسن الثاني في التنحي عن حكم المغرب، الذي عض عليه بالنواجذ، في حال فشلت المسيرة الخضراء ولم تحقق مراميها.. وهو قرار كان قد أمعن التفكير فيه عميقا، بل واستعد له أيضا، إذ بمجرد إعطائه الإشارة لانطلاق هذه الملحمة التاريخية، عاد الملك إلى قصره بالرباط قادما إليه من أكادير.. صعد إلى شرفة القصر ليتأمل اخضرار ملعب الغولف.. سرح ببصره بعيدا إلى زرقة البحر ونظر إليه نظرة مغايرة هذه المرة، ثم أخذ في مخاطبة نفسه: “لقد كان ممكنا ألا تعود إلى الرباط إلا للم حقائبك استعدادا للمنفى.. فلو فشلت المسيرة لكنت استقلت”، يقول الحسن الثاني.
إنها واحدة من اللحظات العصيبة التي عاشها ملك استثمر كل قوته ودهائه كي يحافظ على عرشه، فأن يفكر في الاستقالة معناه شيء واحد، هو أن الصحراء كانت بالنسبة له مسألة حياة أو موت ووجود، أكثر منها مسألة حدود.. لذلك، بمجرد نجاح المسيرة، والضغط على إسبانيا لتوقيع معاهدة مدريد التي استرجع بموجبها المغرب أقاليمه الجنوبية، حتى تنفس الحسن الثاني الصعداء، لأن “المسيرة الخضراء” بعد تحقيقها لأهدافها، أعطت للملك آنذاك “مجدا سياسيا” وموقعا رياديا بين القادة العرب، خاصة وأنه حصد ثناء الخصوم قبل الأصدقاء