حرصت في مقال “لماذا أرى أن المواطن “الفاسد” الذي قبض ثمن بيع مستقبل وطن لا يحق له أخلاقيا ومنطقيا الاحتجاج على ارتفاع الأسعار و تضخم تكاليف المعيشة؟!” أن أجعل العنوان أكثر استفزازا و أبتعد عن الدبلوماسية و اختيار العبارات الهادئة، لأني حقيقة أرى أن الواقع يحتاج إلى جرأة في التشخيص، خاصة وأننا أمام مفترق طرق خطير ومستقبل البلاد و العباد تتهدده العديد من الأخطار، و مادفعني لقول هذه الكلمات هو الرد على أولئك الذين يقبلون بيع أصواتهم و ذممهم مقابل عرض زائل بكل تأكيد، فالأوطان لا تكرم اللصوص والخونة و إنما تكرم الشرفاء و الأحرار و الوطنيين حقا و حقيقة ، مصلحة الوطن تتطلب اليوم مراجعة شاملة لمواقفنا الشخصية و لموقفنا الجمعي مما نراه من فساد سياسي و اقتصادي و عودة ممنهجة لسنوات الرصاص و لسياسات تكميم الأفواه و رفض و قمع للصوت المعارض و زمن الحلول الفردية إنتهى و لا بديل عن تفعيل “قانون الكم ” و ينبغي للأغلبية الصامتة أن تخرج من صمتها و سلبيتها … فقبل نحو 12 سنة من هذا التاريخ و تحديدا في 20 فبراير2011 ، شهد المغرب احتجاجات شعبية واسعة عمت مختلف مدن المملكة، و كان لكاتب المقال الشرف أن يكون في الصفوف الأمامية لهذه الاحتجاجات في العاصمة الرباط ، بل و تبنى مطالب الحراك إعلاميا عبر قناته الفضائية و من خلال صحفه الالكترونية أو الورقية، و دافع عنها بوسطية و اعتدال، دون تطرف أو تحيز ، فلست من العدميين الذين يقولون بأن كل شيء في المغرب سيء، و لست من “المطبيل” من الإعلاميين و الأكاديميين و السياسيين، الذين يقولون بأن النظام السياسي في المغرب على حق دائما و أن إنجازاته ليس لها مثيل ، و كلا الموقفين في نظري مجانب للصواب و للحقيقة و بعيد عن الموضوعية.. فالمغرب قبل انطلاق حراك 20 فبراير شهد جملة من التحولات السياسية و الإصلاحات الحقوقية التي لمسناها و عايشناها، فمنذ أواخر تسعينات القرن الماضي بدأت عملية مصالحة هادئة بين القصر و رموز المعارضة و تم الإفراج عن المعتقلين و المصالحة مع المنفيين بل إن أحزاب المعارضة و خاصة الكتلة الوطنية ، تمكنت من قيادة الحكومة في شخص المرحوم “عبد الرحمان اليوسفي” و هو معارض قدير ووطني نزيه..
و مسار التحول بدأ في أواخر عهد الراحل” الحسن الثاني”، و مع صعود وريث عرشه للسلطة استكمل مسار الإصلاحات، و تم عمليا طي ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان طيلة الفترة الممتدة من الاستقلال إلى حدود 1999 و تشكيل هيئة الإنصاف و المصالحة و جبر ضرر المتضررين من سنوات الرصاص ، و فتح المجال للمتضررين من قول الحقيقة و سرد ما حصل مباشرة على الجمهور، لكن هذا المسار الإصلاحي سيشهد هزات عنيفة كان أبرزها الأحداث الإرهابية في الدار البيضاء عام( 2004 أو 2003 )، و هذه التفجيرات شكلت نقطة فاصلة في ما سمي بالعهد الجديد، و الذي علينا الإقرار بأن في بداياته تم اتخاذ إجراءات سياسية و حقوقية لها أهميتها ، لكن بعد ذلك بدأ التضييق على حرية الرأي و التعبير، و إنطلاق موجة جديدة من القمع و التضييق ضد معارضيين جدد و خاصة المنتمين لما يعرف بجماعات “الإسلام” السياسي أو السلفيين…هذا الوضع استمر إلى حدود 2011 و هذه السنة كانت فاصلة ، فمع إشعال البوعزيزي النار في نفسه، إشتعلت تونس و أسفرت عن إسقاط نظام “بن علي”، و من تونس إنطلقت شرارة التغيير إلى باقي البلدان العربية، و لم يكن المغرب ببعيد عن هذه الشرارة لأن الوضع العام كان قابلا للإشتعال، فالشعب المغربي و خاصة شبابه كان تواقا للمزيد من الحرية، و في الحاجة إلى الشعور بالكرامة و المساواة في بلده، و إقامة نظام سياسي ديموقراطي، و مكافحة الفساد و التفاوت في توزيع الثروات الوطنية ..
و كان الحراك المغربي حراكا نوعيا بإمتياز، حراك سلمي وواعي، عبر من خلاله الشعب المغربي، عن وعيه السياسي و رقيه الحضاري، و قد أذهلني حجم الانضباط الذي كانت تشهده مسيرات الرباط، و التي كنت من ضمن المنظمين لها و قادتها على الأرض، كما ينبغي الإقرار أن الأمن المغربي تعامل مع الحراك- و خاصة في العاصمة الرباط- بدرجة عالية من الانضباط و لم يصادف أن تعرضنا طيلة شهر من الاحتجاجات الأسبوعية إلى مضايقات أو تدخل عنيف، و كان تجاوب العاهل المغربي في خطاب 9 مارس إيجابي و بناء، إمتص بموجبه الغضب الشعبي و تجاوب مع جزء كبير من مطالب الحراك.. و أقول هذا على الرغم من أني ممن دعوا إلى مقاطعة التصويت على دستور 2011 ، لأنني أرى كما يرى باقي نشطاء حركة 20 فبراير و معهم بعض فقهاء القانون الدستوري، أن الدساتير هي نتاج لعقد إجتماعي و لتوازن القوى داخل مجتمع ما في لحظة ما، و أن الشعب هو مصدر السلطة و صاحب السيادة، و هو من يتولى إنتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية التي تتولى وضع الدستور، و هذه الهيئة المنتخبة هي من تتولى “دسترة” العقد الاجتماعي الجديد الذي تشكل في 20 فبراير…لذلك كنت أرى أن دستور 2011 ينبغي ألا يكون دستورا ممنوحا على غرار الدساتير السابقة ..
ويرى البعض أن مطالب حركة 20 ما زالت قائمة، في ظل ما عاشه المغرب من ديناميات واحتجاجات منذ 2011 إلى حدود اليوم…و بنظري فإن مطالب الحركة لم تتحقق على أرض الواقع، وهو ما تدل عليه مؤشرات المغرب على مستوى التنمية البشرية والاقتصاد والديمقراطية والحريات، وهو ما تؤكده التقارير الرسمية وخطابات أعلى سلطة في البلاد ، و بخلاف العديد من التحليلات التي مصدرها المغرب ، فإننا نعتبر أن التحدي الذي يواجه المغاربة هو ضرورة تحقيق إصلاح سياسي حقيقي لا سيما في جانب فصل السلط و توزيع المسؤوليات و تدعيم المساءلة ، فالمغرب اليوم أمام تحدي كبير وهو الحفاظ على وحدته الترابية، هذا إلي جانب تحدي تحقيق التنمية و الحد من معدلات البطالة و الفقر و اللاعدالة في توزيع الثروة، فالملاحظ المحايد يقول أن المغرب لم يخرج بعد من المنطقة الحرجة ..
إن مستقبل المغرب و تماسكه مرتبط بأجندة مغايرة لما يتم تبنيه حاليا : نتفق جميعا على أن الوحدة الترابية للبلاد خط أحمر لا أحد له الحق أو القدرة في التنازل أو التفريط في شبر من التراب المغربي، و هنا ينبغي لي إدانة و إستهجان قرار تحويل سبتة و مليلية المحتلتين لنقطة جمركية و عدم المطالبة باسترجاعهما خاصة في اللقاء المشترك الذي جمع رئيس الحكومة أخنوش بنظيره الإسباني قبل أيام بالعاصمة الرباط، و تجاهل الحديث عن الوضع القانوني للمدينتين، و هو ما يعني تعديل في وضعها القانوني ، و اعتراف ضمني بالسيادة الإسبانية عليها، و من غير الجائز قانونا أو شرعا التفريط في سبتة و مليلية و الجزر الجعفرية ، و هذه المدن و الجزر المحتلة ينبغي استراددها ، و ينبغي ان تكون على رأس جدول الدبلوماسية المغربية