قمة بوناصر…متعة بطعم جميل

طنجة اليوم  : يوسف بلحسن

لم تكن رحلة عادية ، أكيد أن تجاربي في الحياة والسفريات قد طافت بي في متاهات غير متخيلة لدى الكثيرين ؛المرور بمناطق تعرف حربا أهلية ، الإقامة في بلد نظامه غير منظم أصلا ،الطواف في بلاد يصعب فيها إقامة الشعائر ، الى غير ذلك… لكن تجربة قمة “بوناصر “بصمت مرحلة جميلة من عمري ،لم تكن سهلة بل ومزجت نوعا من الخطورة. هذا ما أحسست به للحظات وأنا أدافع خوفا داخليا للهبوط من قمة منحدرة بشكل جنوني وفوق تربة صخرية لزجة ،مبللة ومثقلة بالثلج تميل خيوطها المرتهلة نحو السقوط بدون انذار مسبق…

ناداني الإدريسي ذات صباح :”يوسف هل تريد أن نذهب بعيدا لقمة بالأطلس المتوسط وبالضبط بالمنطقة الشرقية ؟ ،”كان السؤال يحمل في طياته التأكيد ضمنيا على المشاركة في هذه المغامرة الجديدة وكيف لي أن أرفض خرجة لمناطق من وطننا لم يسبق لي زيارتها بعد ؟ ، فالادريسي إنسان طيب يحبه الجميع ،يعشق رياضة الجبال يهيم في متاهاتها ويحتفظ بنفس شبابي جميل ، معه الرحلة أكيد ممتعة وأكيد مثيرة
.

معنا وبنفس الحماقة والرغبة في الاكتشاف ،امتطى جلال الصديق النشيط والخبير في علم الاعشاب والعلاج الطبيعي يهيم بنا بمعارفه المتنوعة ونسعد بمعاكسته في نقاشات الطريق حتى هو له حب للجبال ، سارت بنا “الدابة “طويلا عبر طرق المغرب الفلاحية ، شخصيا أفضل دائما السفر عبر” الوطني” عوض “السيار ” ،أفضل تلك القرى المغربية التي نمر بها، لقاء الناس العاديين والأكل في المطاعم الشعبية .لذتها في بساطتها وعدم تصنعها ،ليس هناك “شاف” بنجمات شهرة ..سنصل الى ” ميسور “لنجد الوسيم “محسن” في انتظارنا ،كرم معهود ولقاء مع شاب نقش بقوة الإرادة مكانة علمية فتحت أمامه الأفق لمستقبل إداري زاهر ..لم اعرف” بأوطاط الحاج” حتى حللت بها ، تلك اللحظات الجميلة للوصول الى رقعة من بلدي الجميل ،طبيعة مغايرة لمنطقتي وفي التغيير متعة .

هناك وجدنا الشاب “م.الحجام” في الانتظار ،معه كان التنسيق مسبقا لمصاحبتنا للصعود لتلك القمة “البوناصرية “.م.الحجام  الفتى العشريني من شباب الوطن المجاز ،لحد الساعة لم يصله حقه الدستوري من العمل ،إن شاء الله مستقبلا. .     .الجو بارد في “أوطاط الحاج” ، لقاء ناس المنطقة والحديث معهم يعطي دفئا جميلا ؛ في المقهى ليلا سنلتقي قامة في تسلق الجبال حكيم مجاهد المعروف ب “لعموم ” وحده ظاهرة جميلة لعشق الجبال ، حكيم عالم بذاته ،له فلسفة في الحياة أعجبتني تقول باختصار :”الكونجي اللي ما فيهشي مدة عام ما كونجي وما والو !!!”. أكيد سأعرض عليه خرجات معي ومع ابنائي في جبال الشمال ،أريد أن يأخدوا منه تلك البساطة في العيش لمدة طويلة في أعالي الجبال وبأبسط الامكانيات …

قبل الفجر انطلقت شلتنا لمغامرة التسلق تركنا السيارة في حراسة الله في فضاء “تيزي عطشانة” والظلمة لا تزال مغلفة الفضاء .انطلقنا.محمد المرشد في المقدمة ،أتبعه بشغف والادريسي يسير بخطى وطيدة وإن ليس بالسرعة المعتادة عنده . جلال متأخر كثيرا “اسرع يا هذا الصعود طويل وصعب …أو عد أدراجك للسيارة وانتظرنا !! “. بدأ “صوف الثلج “يتساقط علينا..جميل… أحسسنا بالمتعة رغم البرد نحن القادمون من منطقة بحرية لا تعرف هذا الجو . الصعود يأخذ منحى جدي ، تظهر القمم الأولى عالية ومخيفة . يبدأ التسلق الحقيقي تحس منذ اللحظات الأولى أن هذه القمم ليست سهلة ، وان التجربة ضرورية والحذر أكثر ،والمرشد “فرض” لا تصح بدونه أية “عبادة جبلية”.للحظات يصبح جلال نشيطا ويصعد بكل اطمئنان بينما يسير الادريسي على سنته في صعود متواصل .

نظرت إلى الأسفل بعد منتصف الصعود .”يا للهول يبدو المنحدر شاهقا “!! البرد قارس ،حتى محمد المرشد الذي يعيش هذا الجو منذ طفولته يحس بلسعته في أنامله . أنظر إلى الأعلى إلى النصف المتبقي ، “يا للهول مرتان “هل علينا صعود هذا الوحش ؟ لمحاربة الخوف ،العدو الاول لهذه الرياضة ،اقتفي خطوات محمد، خطوة خطوة ولا ألتفت ورائي بالمرة. حتى وجدت قدمي اللعينة التي ساقتني الى هنا تلمس سطح القمة . الحمد لله تحقق الأمل وسعادة غامرة تنسينا الدرجات الخمس تحت الصفر ،والرياح و الاسوأ الضباب المصاحب لسقوط الثلج.

يعرف محمد أنه علينا الإسراع بأخد الصور التذكارية والعودة أدراجنا. جلال ينتشي بفيديوهات يسجلها ويفرض علينا التصريح عبر كل مقتطع ،ليركب روبرتاجات جميلة ومهمة . الادريسي يخرج اللافتة /الورقة المعلنة لاسم القمة (بوناصر3356متر) ”  تجتمع الشلة في القمة منتشية فرحة ، أحس بغبطة سأقول لولدي خاي محمد :” قمم الأطلس ليست سهلة كما يعتقد البعض ،تتطلب استعدادا نفسيا وجسديا وارادة قوية و”رأسا صغيرا “يستمع لنصائح المرشد حرفيا والاهم حب الجبال عشقها.” محمد مرشدنا يصر علينا لبدء الهبوط “هيا الضباب ينزل الوضع سيزداد سوءا ..” تنتهي نشوة الانتصار ويبدأ هول النزول ،يقول الخبير “لعموم حكيم ” :(أغلب المصائب تقع في مراحل النزول ). عندي “فوبيا “من تلك المنحدرات ، وهنا يا للهول هذا انحدار نحو الهاوية ، الضباب الكثيف و لسعات البرد مع سقوط الثلج تزيد من هول اللحظة … تنظر إلى الأسفل لا يبدو أي طريق أو مسلك ، يسير بنا المرشد محمد بخطى وطيدة ثابتة ، ينسل الادريسي وجلال بهدوء وثبات نحو الأسفل ،وأتعثر أنا في خطواتي . يصاحبني محمد يرسم لي خطوات النزول الملتوية .القاعدة الجبلية تقول المشي يكون بطريقة الحمار ،أي إلتوائية . أتحاشى النظر إلى الأسفل ،الثلج والحجارة الصغيرة تجعل القدم زلقة ، تدافع الخوف والصعوبة بالحديث مع المرشد ، وبين هذا وذاك تجد نفسك قد وصلت بعون الله إلى أسفل الجبل ،حيث جلال والادريسي يحتسيان طربا “موندا.” إحساس آخر ،مغاير لذاك الذي تعيشه لحظة النشوة . نجحنا بفضل الله في تحقيق حلم آخر ، هذه تجربة ستظل خالدة و لفرحتنا نقرر تأجيل برنامج الصعود لقمة اخرى ،نعوض ذلك بجلسات مع الأصدقاء هناك . عود على بدء …تجربة قمة بوناصر بصمت مرحلة جميلة من عمري .أود العودة مرة أخرى إلى تلك البقعة الجميلة من وطني .وإن كنت لا اعتقد أنني سأعيد هول مغامرة قمة العنيد “بوناصر” في فصل الثلوج ….

x

Check Also

محكمة أمريكية تحسم الجدال في إشكالية هل الطماطم فاكهة أم خضروات ؟

طنجة اليوم : متابعة كان الناس في الماضي يتجنبون الطماطم ويعتبرونها مسمومة ...